-->

(نباشو_القبور ).. تجار الجثامين (1)



 (نباشو_القبور ).. تجار الجثامين (1)

ــ لازال طريا .. أقسم على ذلك .. لقد مات هذا اليوم يا سيدي. قال احد الرجلين وهو يربت بيده ويمررها على أجزاء ذلك الجسد المسجي أمامه كأنه جزار يستعد لبيع إحدى نعاجه


ـ


نظر السيد الأنيق إليهما باحتقار، فقد بدا جليا من ملابسهما الرثة والمتسخة بأنهما ينتميان إلى عالم أدنبره السفلي حيث الجوع والفقر والجريمة، أشاح بصره عنهما متفحصا الجثة بعينان خبيرتان، صمت لبرهة متفكرا ثم قال : إنه رجل عجوز .. لن ادفع فيه أكثر من سبعة جنيهات


ــ أجعلها سبعة جنيهات ونصف .. لن تندم على ذلك يا سيدي فالبضاعة جيدة كما ترى. قال الرجل الآخر وهو يهز الجثة بيده ليؤكد وجهة نظره


ــ سبعة جنيهات وشلنان .. هذا هو عرضي النهائي. قال السيد الأنيق وهو ينحني ليخرج النقود من جرار مكتبه ثم أردف وهو يناولهما المال : مدداه على الطاولة وتذكرا جيدا .. سأدفع لكما مبلغا جيدا مقابل كل جثة جديدة تحضرانها إلى هنا


ـ


أخذ الرجلان المال وغادرا الغرفة على استعجال، ولم تمض سوى لحظات حتى تواريا كالأشباح في ضباب أزقة أدنبره المظلمة


ـ


كانت تلك هي المرة الأولى التي يقصدان فيها مكتب الطبيب روبرت نوكس ليبيعاه جثة بشرية، بيد أنها لن تكون المرة الأخيرة، فخلال الأشهر اللاحقة سيترددان على مكتبه مرارا وتكرارا، وفي كل مرة سيحملان معهما جثة جديدة


ـ


لكل واحدة منها حكاية مختلفة لم يهتم الطبيب نوكس لسماعها أبدا، همه الوحيد كان يتمثل في الحصول على المزيد من الجثث من أجل حصص التشريح الرائجة والناجحة التي كان يقدمها لطلاب الطب في مدينة أدنبره.. 


ـ


لكن حكايتنا في الحقيقة لا تبدأ من مكتب الطبيب نوكس، وإنما من مكان أخر يبعد مئات الكيلومترات في أيرلندا الشمالية حيث ولد الرجلان وترعرعا


ـ


الأول يدعى وليم بورك، أبصر النور في بلدة صغيرة بالقرب من مدينة سترابن الأيرلندية عام 1792، كان والده مزارعا بسيطا لكن بورك لم يشأ أن يكون كوالده، عمل خادما لدى أحد النبلاء، ثم تاجرا صغيرا بالملابس والأحذية المستعملة


ـ


لكن المستقبل في أيرلندا لم يكن واعدا، فقرر الهجرة حاله حال الآلاف من أبناء جلدته، وذلك بحثا عن فرص أفضل، فوصل إلى أسكتلندا في عام 1817 تاركا خلفه زوجة وطفلان. وما لبث أن وجد لنفسه عملا في مشروع ضخم لشق قناة مائية، فأرسل إلى عائلته لتلحق به، لكن زوجته أصرت على البقاء في وطنها، فتعرف بورك على امرأة أخرى تدعى هيلين مكدوغال وعاشا معا بالقرب من أدنبره كزوج وزوجة


ـ


بطل قصتنا الآخر يدعى وليم هير، وهناك لغط حول مكان وزمان ولادته، بيد أنه كان مهاجرا أيرلنديا ينتمي إلى ذات المقاطعة التي هاجر منها زميله بورك، وهو أيضا عمل في مشروع حفر القناة في أسكتلندا.


ـ


ثم تعرف في أدنبره على رجل يدعى لوج كان يدير نزلا – بنسيون - حقيرا يؤجر غرفه للفقراء، وحين مات لوج هذا في عام 1826 تزوج هير من أرملته مارغريت التي استمرت بإدارة النزل فيما استمر هير في العمل في القناة


ـ


في عام 1827، انتقل بورك وزوجته للعيش في الحي الجنوبي من أدنبره، وهناك تعرفا على مارغريت وزوجها، ثم سرعان ما توطدت العلاقة بين بورك وهير فصارا صديقان مقربان قلما يفترقان


ـ


منذ منتصف القرن الثامن عشر شهدت أوربا بواكير نهضة شاملة على جميع المستويات، كان الجانب العلمي والأكاديمي من أبرز وجوهها، حيث أنشئت العديد من الجامعات وازداد عدد الطلبة باضطراد، ترافق ذلك كله مع تطور أسلوب التعليم الذي بدء ينسلخ تدريجيا عن طراز التفكير الخرافي الذي كان سائدا في العصور الوسطى وراح يقترب شيئا فشيئا من المنهج العلمي الحديث القائم على التجربة والبرهان


ـ


وبالطبع فأن لكل نهضة علمية مستلزماتها واحتياجاتها الخاصة، فجامعات الطب مثلا كانت بحاجة ماسة ومتزايدة للجثث البشرية لغايات التشريح، والمصدر الوحيد لتلك الجثث آنذاك كان يتمثل في أجساد القتلة والمجرمين الذين كانوا يشنقون في الساحات والميادين العامة ثم تنقل جثثهم إلى المعاهد والكليات الطبية للاستفادة منها في دروس التشريح


ـ


لكن أعداد المعدومين لم تكن تلبي الطلب المتزايد على الجثث، ففي إنجلترا القرن التاسع عشر مثلا كان يعدم حوالي 55 شخصا سنويا بينما كانت الحاجة الفعلية من الجثث للغايات الطبية تربو على الخمسمائة


ـ


وقد ساهم هذا النقص في ظهور تجارة سرية قائمة على بيع وشراء جثث الموتى. فكانت الأجساد تنبش وتسرق من المقابر لتباع بمبالغ مجزية لكليات الطب في لندن وأدنبره وغيرها من الحواضر الأوربية، حتى وصل الأمر حدا أجبر معه سكان تلك المدن على الانخراط في حراسة مقابرهم وموتاهم


ـ


السجلات التاريخية تخبرنا بأن بطلا قصتنا لم يكونا من المجرمين أرباب السوابق، لم يكن لديهما سجل جنائي وكانا يكدان لكسب لقمة العيش


ـ


ولعل الصدفة وحدها هي التي قادتهما ليكونا من أشقى السفاحين، أو بالأحرى هي التي كشفت عن معدنهما السيئ


ـ


الأمر برمته بدأ في يوم ما من عام 1828 حين مات أحد النزلاء في النزل الذي كانت مارغريت زوجة هير تديره، الراحل كان ضابطا متقاعدا فارق الحياة لأسباب طبيعية، لكنه رحل إلى العالم الآخر من دون أن يسدد الجنيهات الأربعة التي كان يدين بها لمارغريت ولم يكن له ورثة يسددون عنه دينه


ـ


فخطرت لبورك وصديقه فكرة جهنمية، إذ كانا قد سمعا قبلا عن تجارة الجثث الرائجة في المدينة، وكانا يعلمان جيدا بأنه كلما كانت الجثة حديثة كلما ارتفع سعرها، لذلك اشتريا تابوتا خشبيا رخيصا ووضعا داخله لحاء شجرة ثم شيعاه إلى الكنيسة ودفناه أمام الناس وهما يذرفان دموع التماسيح حزنا على الفقيد


ـ


أما الجثة الحقيقية فقد تعاونا على نقلها تحت جنح الظلام إلى جامعة أدنبره وعرضا بيعها على أول شخص لاقياه هناك والذي كان طالبا للطب أرشدهما مباشرة إلى مكتب الطبيب نوكس الذي اشترى الجثة لقاء سبعة جنيهات وشلنان كما أسلفنا


ـ


سهولة العملية وحلاوة المبلغ الذي حصلا عليه – سبعة جنيهات إسترلينية لم تكن مبلغا قليلا آنذاك – دفعت الرجلان إلى التفكير مليا للحصول على المزيد من الجثث .. لكن كيف السبيل إلى ذلك ؟


ـ


وهنا أيضا لعبت الصدفة دورا كبيرا في مجريات الأمور، فأحد النزلاء كان رجلا مريضا يدعى جوزيف الطحان، كان وحيدا وبالكاد يستطيع دفع الإيجار، لذلك فكر بورك وهير في التخلص منه، تظاهرا بالاهتمام لأمره


ـ


وفي إحدى الليالي سقياه خمرا حتى ثمل ثم قتلاه بطريقة مميزة ستصبح علامة فارقة لجرائمهم القادمة، حيث يقوم أحدهما بإمساك وتثبيت الضحية فيما يكمم الآخر أنفه وفمه بكلتا يداه ويضغط بقوة حتى يختنق ويلفظ أنفاسه


ـ


كانت طريقة مروعة للقتل، فلك أن تتخيل عزيزي القارئ حجم العذاب والألم والرعب الذي كان يهز كيان الضحية لدقائق قبل أن تغادر الروح جسده. جثة جوزيف الطحان بيعت للطبيب نوكس بثمانية جنيهات


ـ


جريمة قتل جوزيف الطحان فتحت شهية القاتلان لمزيد من الجرائم، نذكر منها :


ــ امرأة تدعى آبيغال سمبسون استدرجها الصديقان إلى النزل وسقياها خمرا حد الثمالة ثم قاما بخنقها وباعا جثتها بعشرة جنيهات


ــ امرأة استدرجتها مارغريت إلى النزل واحتالت عليها بنفس الطريقة، أي بسقيها الخمر، ثم استدعت زوجها وبورك ليقتلاها


ــ مومس تدعى ماري باتيرسون التقطها بورك من أحد أحياء أدنبره الشعبية ودعاها لتناول الإفطار في منزله ثم قتلها بمساعدة زوجته


ــ متسولة تدعى إيفي حصل القاتلان على 10 جنيهات ثمنا لجثتها


ــ فتاة متشردة أنقذها بورك من الاعتقال على يد الشرطة بعد أن زعم بأنه يعرفها ثم اصطحبها إلى النزل لينتهي بها المطاف بعد ساعات قليلة جثة هامدة على طاولة التشريح في مكتب الطبيب نوكس


ــ عجوز فقيرة مع حفيدها الأعمى، احتال القاتلان عليهما بوعد كاذب في تقديم الطعام لهما، قاما بقتل العجوز أولا بالسم، ثم أمسك هير بعنق الطفل وكسره. الطبيب نوكس اشترى جثة العجوز وحفيدها مقابل 16 جنيه


ــ امرأة أيرلندية من أقارب بورك


ــ امرأة أيرلندية من أقارب هيلين زوجة بورك


ــ سيدة قادها حظها السيئ للمبيت في نزل مارغريت، لم يكتفوا بقتلها بل قتلوا ابنتها أيضا حين أتت تسأل عن أمها بعد عدة أشهر...


يتبع .....

جديد قسم : رعب

إرسال تعليق